كيف تستغلّ السّعوديّة الرّياضة والسّياسة لتلميع صورتها *

كيف تستغلّ السّعوديّة الرّياضة والسّياسة لتلميع  صورتها *

في الثّاني عشر من آذار العام الحالي، أقدمت السّعوديّة على إعدام واحد وثمانين رجلًا إعدامًا جماعيًّا، ليكون واحدًا من أكثر أيّام المملكة دمويّةً. معظم الأشخاص الذّين تمّ إعدامهم في هذا اليوم الدّموي هم من المنطقة الشّرقيّة الذّين شاركوا في الحراك الشّعبي ضدّ العائلة المالكة.

بعد بضعة أيّام من هذا اليوم الأسود، زار رئيس الوزراء البريطاني السّعوديّة، رغم الضَغوطات التّي مورست عليه ليتراجع عن الزّيارة من الإعلام والبرلمان البريطاني على السّواء.

زيارة جونسون هذه أوصلت رسائل تحالف شديدة الأهميّة للعائلة الحاكمة على رأسها ولي العهد، تؤكّد قدرة بريطانيا على غضّ الطّرف عن إنتهاكات مروعّة لحقوق الانسان، بصرف النّظر عن فظاعتها وبشاعتها.

الحرب أوكرانيّة وارتفاع أسعار النّفط والتّخوّفات من موسم شتاء أوروبي قاسٍ كانت أبرز الظروف الدّوليّة التّي تآزرت لتحول دون تراجع جونسون عن زيارته، ففي ظلّ طوابير الوقود وإرتفاع أسعارها تتراجع قضايا حقوق الإنسان وإنتهاكات الأنظمة إلى آخر سلّم أوليّات رئيس مجلس الوزراء.

رضوخ رئيس الوزراء البريطاني السّابق لقاعدة النّفط وسلّم الأولويّات تذكّر بحوادث سابقة أكثر توضيحًا لمدى النّفوذ الذّي تتمكّن السّعوديّة من كسبه بالمال.

عُيّن وزير الماليّة السّابق في حكومة تيريزا ماي فيليب هاموند مثلًا مستشارًا رسميًّا للحكومة السّعوديّة بعد أقلّ من عامين على تركه المنصب الوزاري، في حادثة توضح قدرة المال على قلب المعادلات. إشترت السّعوديّة خبرة الرّجل الثّاني في بريطانيا مقابل بضعة ملايين لا مليارات، بعدما منح الضوء الأخضر من قبل هيئة الرّقابة البريطانيّة للقيام بعمله لصالح المملكة بعد إنتهائه من عمله البرلماني، فهاموند اليوم عضوٌ في مجلس اللّوردات البريطاني فقط دون أن يكون عضوًا في مجلس العموم. هذه ليست المرّة الأولى التّي تستعين فيها السّعوديّة بسياسييّن عملوا لصالح بلدانهم ليعملوا لديها مدفوعي الأجر من قبل الحكومة.

ففي حادثة مشابهة، بيّن الكشف في الذمّة الماليّة للسّفير الأمريكي في البحرين عمله مع الحكومة السّعوديّة وتقاضيه راتب منها، وذلك بعد سعيه لتشكيل مجموعة ضغط لصالحها.

جهود السّعوديّة لغسيل الصّورة تظهر في مجال الرّياضة أيضًا، ففي 27 آذار وبعد مضيّ أسبوعين على يوم السّعوديّة الأسود انطلق السّباق الثّاني من الموسم الجديد لبطولة العالم للفورمولا وان، وسط دعوات صريحة للجهات المنظّمة للتّراجع عن قرار إقامة السّباق في هذه الظّروف المحرجة.

ردود إدارة الفورمولا وان على أسئلة الصّحفيين كانت هزيلة للغاية وغير مقنعة. ستيفانو دومينكالي، المدير التّنفيذي، اعتبر قبيل إنطلاق الحدث الرّياضي لقناة “سكاي سبورتس” أنّ التّقارير التّي تتحدّث عن إعدام 81 رجلًا في يوم واحد مقلقة للغاية، ولكنّه صرّح في الحديث نفسه أنّه لا يرى وجود سببٌ لعدم إقامة السّباقات هناك.

محاولات العائلة الحاكمة في السّعوديّة لترسيخ شرعيّتها، وتبييض جرائمها وانتهاكاتها لحقوق الإنسان عبر ترسيخ نفسها كدولة أكثر انفتاحًا وتنوّعًا وقبولًا من خلال إستضافة أهمّ سباق سيارات في العالم باءت بالفشل، فما حدث كان مختلفًا تمامًا، حين وجّه لويس هاملتون وهو بطل العالم لسبع مرّات إنتقادات لاذعة للسّعوديّة خلال إقامة الحدث الرّياضي، فعند سؤال أحد الصّحفيين له عن رأيه بقرار الفورومولا بإجراء السّباق في السّعوديّة أجاب بعدم شعوره بالإرتياح، “لكنّ القرار غير عائد لي، لكنّ المسؤولين عن التّنظيم أخذوا القرار نيابةً عن الجميع”.

حملة إعلاميّة شرسة تعرّضت لها السّعوديّة من قبل الجهات المعنيّة بتغطية الحدث الرّياضي،    فالمملكة وبالإضافة إلى سجّلها الحافل باضطهاد النّشطاء السّياسيين، مستمرّة في حربها على اليمن التّي تلطّخ صورتها بشكل فاضح.

إدارة الفورمولا وان تعرّضت لحملة مشابهة، فالإزدواجيّة في مقاربة الملفّات الحقوقيّة دوليًّا باتت لافتة بشكلٍ باعث على الكثير من السّخريّة. فالفورومولا وان كان قد أوقفت فيه السباقات مع روسيا وألغت عقودها بشكل دائم بسبب شنّها حربًا على أوكرانيا، في الوقت الذّي تدافع فيه عن قرار إقامة السّباقات في السّعوديّة وفي البحرين الدّولة الحليفة لها في هذه الحرب.

صفعات قويّة وجهّت إلى الفورمولا وان هذا العام، فالنّاشطون في البحرين أيضًا حاولوا الإتّصال بإلإدارة قبل بدء الموسم في البحرين، وسؤالهم عن سبب إلغاء السّباق في روسيا دون السّعوديّة أو البحرين، ورغم عدم حصول النّاشطين على إجابات،  هناك شكوى قانونيّة مقدّمة ضدّ إدارة الفورمولا وان من قبل الضّحايا اليوم.

إضافة إلى ذلك، حصل السّجناء السّياسيّون على مناصرة بطل العالم لويس هاملتون، فبعد تضامن البطل الأشهر في هذه الرّياضة مع سجناء الرّأي، وجّه له أحد المعتقلين رسالة يخبره فيه عن تعلّق السّجناء بهذه الرّياضة جرّاء تصريحاته، وعن كتابة إسمه ورقمه على ملابس السّجناء. 

هاملتون الذّي تحدّثت معه صحيفة الغاردين حين نقلت له الخبر بشكل حصري،  أعرب عن فخره وإمتنانه العميقين لقدرته على التّأثير على هؤلاء الأشخاص بهذه الطّريقة.

تظهر  محاولات السّعوديّة في التّأثير على صناعة القرار والتّحكّم في مفاصل الحياة العامّة أيضًا في قضيّة شراء نادي نيوكاسل يونايتد مقابل 300 مليون جنيه إسترليني، أي ما يعادل مليار وسبعمئة مليون ريال سعودي. فالسّعوديّة تبحث عن النّفوذ عبر وصولها إلى الدّوري الإنكليزي الممتاز وهو أهمّ حدث رياضي في بريطانيا، وواحد من أهمّها في العالم على الإطلاق، حيث يتابع هذا الحدث ملايين المشجّعين بشكل مستمرّ. وذلك يؤكّد القدرة العالية للأنظمة على التّأثير  على قرارات دول تدّعي الدّيمقراطيّة عبر سلاحي النّفط والمال.

تتجلّى المزاجيّة في معالجة القضايا الحقوقيّة وقدرة السّياسة الدّوليّة على تمييع ملفّات حقوق الإنسان والإستنساب في مقاربتها، وهذا ليس أمرًا جديدًا، ولكّن الأكثر إحباطًا هو النّفاق الرّياضي وقدرة الأنظمة على شراء الذّمم لتلميع صورتها عبر الأموال والتّحالفات.

 رغم كلّ ذلك، يبقى على المنظّمات الحقوقيّة المحليّة واجب التّوثيق والسّعي بشتّى الطّرق المتاحة لإيصال صوت الضّحايا إلى المجتمع الدّولي، فالجهود التّي قامت بها منظّمة ريبريف لإحراج المسؤولين عن الفورمولا وان ساهمت في رفع الصّوت، والجهود الحثيثة التّي تقوم بها المنظّمة الأوروبيّة  السّعوديّة لحقوق الإنسان في كشف ملف الإعدام وإحصاء الأرقام وتحديد القضايا، وتفعيل آليّات مجلس حقوق الإنسان والتّأثير على  قرارات البرلمانات، تعمل بشكل مباشر على دحض مساعي السّعوديّة نحو التّعتيم وتعطيل قدراتاها على شراء الذّمم وتخفيف حدّة القمع والإنتهاكات.

فكما سقط نظام محمد بن سلمان الجبّار وإهتز إثر إغتياله للصّحفي جمال خاشقجي، وكما أجبر على إطلاق سراح لجين الهذلول بعد إرتفاع فاتورة إبقائها في السجن، سيهتز في كلّ يوم يتمّ فيه الإفراج عن أحد المعتلقين وتتوقّف فيه أحكام الإعدام ويسجّل فيه إنتصارٌ جديد لقضايا حقوق الإنسان.

*كلمة  أحمد الوداعي في المؤتمر السنوي الثالث لضحايا الانتهاكات في المملكة العربية السعودية الذي عقد بتاريخ 9و 10 ديسمبر 2022.

AR