
منذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز العرش في عام 2015، اتخذت المملكة العربية السعودية نهجًا أكثر قمعًا، تجسّد في سياسات ممنهجة هدفت إلى إسكات الأصوات المستقلة والمدافعين والمدافعات عن الحقوق والحريات، وتضييق غير مسبوق عليهم. ورغم أن القمع لم يكن غائبًا عن السعودية قبل ذلك، إلا أن وتيرته وحدّته شهدتا تصاعدًا كبيرًا منذ تولي الملك ولاحقا ولي عهده، محمد بن سلمان مناصب السلطة.
باتت أساليب السيطرة على مساحات المجتمع المختلفة، السياسية والحقوقية والاجتماعية، أكثر دموية وتعسفًا، حيث توسعت حملات الاعتقال، وازدادت الأحكام المغلظة، وتكرّس استخدام القضاء ليكون أداة ترهيب. هذه السياسات لم تستثنِ أحدًا، فشملت كتابًا، وناشطين، ومدافعات عن حقوق المرأة، وشخصيات أكاديمية ودينية واجتماعية، في محاولات مستمرة لفرض الصمت وتفريغ الفضاء العام من أي صوت مستقل.
حملات الاعتقالات:
في سبتمبر 2017، اعتقلت القوات السعودية بشكل تعسفي 43 شخصا على الأقل، في واحدة من أوسع حملات القمع، من بينهم رجال دين وأكاديميين وكتاب وصحفيين. لم يوضح بشكل رسمي وقانوني ماهي التهم الموجهة لهم، إلا أن وسائل الإعلام الرسمية إتهمتهم بالتجسس لصالح دولة أجنبية، وذلك على إثرالخلاف الذي إستجد خلال 2017 مع قطر. الإعتقالات أسبابها متعددة، ومنها مواقف بعضهم من سياسات الحكومة السعودية الخارجية أو الداخلية، وإنتقادات للخطوات الإقتصادية أو الإجتماعية أو الدينية.
في مايو 2018، تصاعد القمع ضد المدافعات عن حقوق المرأة، بما في ذلك ناشطات كنّ قد طالبن برفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارة، وهو الحظر الذي رُفع لاحقًا، لكن من طالبن به واصلن تلقي العقاب عليه. من بين أبرز المعتقلات آنذاك: لجين الهذلول، إيمان النفجان، عزيزة اليوسف، وغيرهن، حيث تعرضت بعضهن لسوء المعاملة والتعذيب النفسي والجسدي. لاحقا اعتقلت سمر بدوي ونسيمة السادة وأخريات.
وفي أبريل 2019، شنت السعودية حملت اعتقالات شملت شيخة العرف زوجة المحامي والناشط عبد الله الشهري الذي اعتقل معها في الليلة ذاتها بعد مداهمة منزلهما في الرياض. كما أُعتُقِلت الكاتبة خديجة الحربي مع زوجها الكاتب والناشط في مواقع التواصل الإجتماعي ثمر المرزوقي. كما اعتقل صلاح الحيدر، نجل المدافعة عن حقوق الإنسان عزيزة اليوسف، التي أُفرج عنها مؤقتًا قبل أيام قليلة من إعتقاله، بعد أكثر من 10 أشهر قضتها في السجن إلى جانب مدافعات أخريات. ومن بين المعتقلين أيضاً عبد الله الدحيلان، وهو صحفي وروائي ومدافع عن الحقوق الفلسطينية، وفهد أبو الخيل الذي ناصر حملة قيادة النساء للسيارات، والكاتب نايف الهنداس، والكاتب والمصور رضا البوري، والكاتب الدكتور بدر الإبراهيم، والكاتب محمد الصادق. إضافة إلى ذلك أعتقل ضمن الحملة الروائي والمترجم أيمن الدريس وهو زوج الناشطة النسوية ملاك الشهري، والكاتب علي الصفار الذي اعتقل بعد أن تم إستدعاؤه من قبل مركز الشرطة في محافظة القطيف، والمؤلف يزيد الفيفي، والكاتب والروائي مقبل الصقار.
حملات الاعتقالات نتج عنها أحكام بالسجن لمدد طويلة وصلت إلى عدة عقود، فيما طالبت النيابة العامة في بعض الحالات بعقوبة الإعدام مثل قضية إسراء الغمغام. صدرت هذه الأحكام عن “المحكمة الجزائية المتخصصة”، وهي محكمة أُنشئت للنظر في قضايا “الإرهاب”، لكنها أصبحت الأداة الرئيسية في ملاحقة الناشطين السياسيين والحقوقيين.
الأدلة المقدمة في المحاكمات كانت في معظمها تتعلق بالتعبير عن الرأي عبر وسائل التواصل الاجتماعي: تغريدات، إعادة تغريد، أو حتى متابعات لحسابات معينة. الأحكام تضمنت أيضًا عقوبات إضافية مثل: حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، مصادرة الأجهزة الإلكترونية، إلغاء شرائح الاتصال.
الإفراجات:
مع النصف الثاني من 2024 وبداية 2025، شهدت السعودية سلسلة إفراجات عن عدد من الناشطين والناشطات، بعضهم كان قد أنهى مدة محكوميته منذ سنوات، لكنه ظل قيد الاحتجاز التعسفي، مثل: محمد القحطاني، عيسى النخيفي، سلمى الشهاب. في حين تم الإفراج عن آخرين رغم وجود أحكام جديدة ضدهم، دون أي توضيح رسمي بشأن الأسس القانونية أو الإجراءات المتبعة في ذلك. من بينهم أسعد الغامدي الذي كان قد حكم عليه بالسجن 30 عاما، ومنصور الرقيبة الذي كان قد حكم 27 عاما.
يواجه المفرج عنهم في السعودية، حرية مشروطة، إذ لم تعُد لهم أي مساحة للتعبير عن الرأي أو العمل العام، بل فرضت عليهم قيود صارمة تُفرغ “الإفراج” من حقيقته.
عقوبة منع السفر:
جميع من أُفرج عنهم تقريبًا يخضعون لعقوبة منع السفر بموجب الأحكام القضائية الصادرة بحقهم، حيث يتم منعهم من السفر نفس مدة السجن. على الرغم من انتهاء المدة لا زالت السعودية تمنع نشطاء مثل لجين الهذلول من السفر من دون سند قانوني أو سبب واضح، حيث عرف بعض الأشخاص أنهم ممنوعون من السفر حال وصولهم إلى المطار من دون حكم قضائي أو تبليغ مسبق، مثل الناشط سمر بدوي عام 2014 قبل اعتقالها، وعائلة لجين الهذلول.
وتُعد هذه العقوبة مخالفة صريحة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتحديدًا المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على أن: لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة، ولكل فرد الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إليه.”
فرض الصمت:
بعد الإفراج عن المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان في السعودية، لم تُمنح لهم حرية حقيقية، بل وُضعوا ضمن نظام رقابة صارم وغير معلن، يجعل من حريتهم صورية فقط، ومقيدة بإجراءات غير مكتوبة لكنها مفهومة ضمنيًا: لا صوت، لا ظهور، لا تفاعل.
غالبًا ما يُبلغ المفرج عنهم شفهيًا – دون قرار قضائي – بوجوب التزام “الصمت الكامل”، وهو صمت يتجاوز المنع من النشاط السياسي أو الحقوقي ليشمل: منع الكتابة في الصحف أو المدونات الشخصية، والامتناع عن الظهور الإعلامي أو إجراء مقابلات. فيما أكدت معلومات أنه يتم إلزام العديد من المفرج عنهم بالتوقيع على التزام بعد الحديث وعدم ممارسة نشاط علني.
إضافة إلى الأوامر، فإن القوانين الفضفاضة والمبهمة، التي استخدمت سابقا في ملاحقة ومحاكمة النشطاء، لم يتم تعديلها، ولا زالت وسيلة قد تستخدم في أي لحظة ضد أي ممارسة قد تعتبرها الحكومة السعودية جرما.
من بين ذلك، نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية الذي يستخدم بشكل واسع لتجريم التعبير عن الرأي، حيث تنص المادة 6 منه على معاقبة كل ما قد يعتبر: إساءة إلى النظام العام، الإضرار بسمعة الدولة، إثارة الفتنة، والإساءة إلى القيم الدينية أو الاجتماعية.
إضافة إلى ذلك يستخدم نظام مكافحة جرائم الإرهاب وتمويله بشكل فاضح في ملاحقة النشطاء، وخاصة عبر اعتبار أي موقف أو تغريد أو نشر “دعم للإرهاب”، أو “تعاطف مع جماعات إرهابية”، فيما قد يستخدم أيضا قانون الذوق العام الذي صدر عام 2019، ضد الأفراد حيث يجرم منشورات قد يعتبر أنها “مخالفات سلوكية” أو “محتوى غير لائق” أو “مخالف للقيم السعودية.”
بالتالي، فعلى أرض الواقع، المشهد في السعودية يخلوا تماما من التدوينات، المقالات، المحاضرات، في ظل عدم وصول للمعلومات حول الواقع في الداخل، وهو مايعكس قمعًا نفسيًا وقانونيًا جعل الظهور خطرًا قد يُعاد بسببه الشخص إلى الاعتقال، في ظل غياب أي ضمانات قانونية للحرية التي من المفترض أنهم حصلوا عليها.
استمرار الاعتقالات التعسفية:
رغم الإفراجات الأخيرة، لا يزال عدد من أبرز المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان رهن الاعتقال، بينهم: محمد البجادي، الصحفي وجدي الغزازي، محمد الربيعة، إسراء الغمغام، عيسى الحامد، محمد العتيبي، وليد أبو الخير، عبد العزيز الشبيلي، الشيخ محمد الحبيب.
معظمهم أمضى سنوات طويلة خلف القضبان، وبعضهم يعاني من ظروف احتجاز سيئة ومنع من التواصل مع ذويه أو محاميه. كما لا يمكن معرفة السبب وراء استثنائهم من الإفراجات الأخيرة.
ترى المنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان أن ما تمارسه السعودية من اعتقالات تعسفية وفرض “حرية مشروطة” على الناشطين والناشطات، يكشف عن سياسة ممنهجة تهدف إلى تعميم الصمت التام على المجتمع المدني، وإبقاء المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان تحت طائلة التهديد الدائم. فالإفراج الذي لا يُتيح للمفرج عنهم حرية التنقل، ولا يمنحهم حق التعبير، ولا يُعيد لهم حياتهم المدنية، هو في حقيقته شكل جديد من أشكال الاحتجاز.
تؤكد المنظمة أنه لا يمكن اعتبار الإفراجات الفردية مؤشراً إيجابيًا في ظل استمرار القمع، وغياب الشفافية، واستمرار محاكمة النشطاء بقوانين فضفاضة، أمام محاكم غير مستقلة، ووفق إجراءات تفتقر إلى أدنى معايير العدالة. وتشدد المنظمة على أن تكميم الأفواه، ومنع المعلومات من الخروج إلى العالم، وتحويل الحياة اليومية للنشطاء إلى سجون مفتوحة، إنما هو امتداد للنهج القمعي المستمر.